عن حرية الصحافة في الصومال

كثيراً ما اقترن اسم الصومال بالعنف الدموي وانعدام الحريات الإعلامية ولمدة عقود من الزمن، حتى بدت الألسنة تلوك أوصافا وألقابا تستحضر عند ذكر الصومال في أي تقرير صحفي أو سياسي أو حتى البحوث الأكاديمية والأوراق العملية، أوصاف من بينها أنها أخطر بلد يعمل فيها الصحفيون، وهو ما يكون أحياناً أبعد عن الحقيقة، وتجافي سجل الصومال الحافل بالحريات التي يمنحها للإعلاميين في الداخل والخارج، لكن ربما تحدث أحياناً أحداث أليمة ضد بعض الصحافيين، وتثير الرأي العام المحلي والخارجي على النظام السياسي في البلاد .
في السنوات العشر الأخيرة كان السجال قائماً بين الصحافيين والحكومات الصومالية، فكانت الأجهزة الأمنية تغلق إذاعة محلية و تعتقل عشرات من الصحفيين ثم تفرج عنهم لاحقاً، وهو ما كانت تستخدمه اللجان الحقوقية والنقابات الصحفية لتوجيه جام غضبها على الحكومة الصومالية، وبعدها تكسب تلك اللجان تعاطف المؤسسات العالمية المناهضة لحقوق الصحفيين، وترصد تقارير مؤثقة تعرض حقائق الانتهاكات والاعتداءات التي تُرتكب بحق الصحفيين في الصومال.
في هذا العام، أشار مؤشر حرية الصحافة العالمي إلى أن الصومال حقق تقدم طفيفاً في مجال صون الحريات المكفولة للإعلاميين، وتقدم أمام سبعة دول عربية، منها السعودية والبحرين وجيبوتي ومصر، وهو ما يبشر بأن الصومال لم يعد وحده مكاناً للجرم بحق الصحفيين، لكن مازال يقبع في ذيل القائمة، وأمامه طريق طويل لتحقيق بيئة عادلة وآمنة يعمل فيها الصحفيون لإنجاز مهامهم الإعلامية .
يعاني الصحفيون في الصومال حالياً، التعتيم الذي تمارسه السلطات الصومالية في مقديشو، إذ لاتمنحهم حق حرية التغطية الإعلامية للمناسبات والمؤتمرات الصحفية التي تصدرها الحكومة الفيدرالية؛ حيث جهزت الحكومة الفيدرالية لنفسها جيشاً من المصورين لتغطية أحداثها وتقدم تلك التقارير المصورة للإعلام المحلي وفق رؤيتها وبقالب تختاره مناسباً، وهو ما يعكس تعتيماً جائراً بحق الإعلاميين مساءلة المسؤولين الحكوميين أثناء المؤتمرات الصحفية، لكن ما يجري هو عكس ذلك، أن يعقد مسؤولو الحكومة مؤتمرا تحت جنح الظلام ويتم تسريب تلك المواد صباحاً للإعلام المحلي، وبأجزاء مقطعة لاتناسب أحياناً السياسة التحريرية لكل وسيلة إعلامية في البلاد .
تلك هي النقطة الجوهرية والإشكالية المعقدة بين الحكومة الفيدرالية والنقابات الصحفية الصومالية، فضلاً عن سجل حافل بالانتهاكات والاعتداءات بحق الصحفيين، والتي تتمثل في مصادرة أجهزتهم الإعلامية أو ضربهم والتهديد بالقتل، ومنعهم من التصوير أحياناً، وهو ما كان قائماً ضمن انتهاكات كانت تطال الكثير من الصحفيين قبل عشر سنوات، ولم تجد بعد حلاً لعلاج ظاهرة العنف ضد الصحفيين ذكوراً وإناثاً.
في الـ3 من مايو/آيار الجاري، أرسلت نقابات الصحفيين عريضة تتضمن شكاوى الصحفيين للرئيس الصومالي محمد فرماجو، وذلك للحد من التعديات والانتهاكات التي يواجهها الصحفيون في البلاد، لكن لم ينبس الرئيس الصومالي ببنت شفة، فخرج عليهم مدير المكتب الإعلامي للرئيس الصومالي بخطاب لايلبي بطموحات وتطلعات الصحفيين، حيث أشار إلى أن الحكومة الفيدرالية ليست مسؤولة عما يجري في الولايات الفيدرالية الأخرى لضمان حرية الصحافة ، وهو ما يعكس حالة اضطراب وفشل تواجهها الحكومة الفيدرالية للحد من التعديات والتجاوزات التي يواجهها بعض الإعلاميين ومؤسساتهم . حيث تعرضت صحفية صومالية للضرب من قبل مسؤولين عسكريين في مقديشو قبل أيام، و تحركت الأجهزة الأمنية للقبض على العسكريين الذين اعترضوا سبيل الصحفية ومصورها، وهي خطوة تلقت اشادة واسعة من الإعلاميين المحليين، لكن بنظر البعض ليست حلاً لانتهاكات كثيرة يتعرض لها الصحفيون جهاراً نهاراً، مالم تسن قوانين تجرّم الإعتداء على الصحفيين في البلاد .
ويضاف إلى سجل الصومال الحافل بأعداد القتلى للصحفيين، صحفي جديد سقط مع مطلع مايو/آيار الجاري؛ حيث تعرض لثلاث طعنات من قبل مخمور، أسقطته صريعاً قبل أن يُسعف إلى المستشفى؛ حيث لاتزال ملابسات مقتل هذا الصحفي غير واضحة، ولم توضح بعد السلطات الرسمية أسباب مقتل هذا الصحفي الشاب، وهو ما يشير إلى أن آلة الموت تحصد أرواح الصحفيين كما غيرهم من الصوماليين ولمدة عقدين ونيف .
إن نقطة الضوء في النفق الأخير هي أن الصومال يقفز من ذيل القائمة، وتقبع دول عربية في أدنى المؤشر، فهي الأكثر والأشد قسوة بحق الصحفيين، ويقبع العديد في سجونها ويتعفنون في سراديب الموتى، أخرها موت المخرج المصري الشاب شادي حبش، فضلاً عن آخرين يواجهون أحكاماً جائرة، ذنبهم الوحيد أنهم تجرأوا على كشف المستور، بينما مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي مازال قضية رأي عام عالمية حتى بعد مررو سنة وأشهر من وفاته، ولكن في الصومال مازال الصحفي الشاب “أبوجا” يواجه تهماً بالانتماء لحركة الشباب المرتبطة بتنظيم القاعدة، والمشاركة في جريمة قتل، وهي تهم لم تصدر من النيابة العامة بل من المخابرات الصومالية التي أشارت في تغريدة لها بتويتر أن الصحفي مرتبط بجريم قتل، وهو ما فندته النقابات الصحفية في البلاد، بحجة أن المخابرات الصومالية ليست سلكاً قضائياً يصدر التهم والعفو، بل هي جهاز لمكافحة جرائم الأمن وتسليم المشتبه بهم للسلطات القضائية أو العدلية للنظر في قضاياهم، ولم تتدخل السلطات الرسمية للبت في قضية هذا الصحفي المعتقل في سجن حكومي دون أمر قضائي لمدة شهرين تقريباً.
أيا كانت الإعتداءات التي يتعرض لها الصحفيون في الصومال، فإن دور صحافة المواطن يتعاظم في هذه الأيام مع سرعة انتشار الإعلام الرقمي في عالمنا المعاصر، فلم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق والمعلومات عن المجتمع التكنولوجي الذي لم يعد يثق بالإعلام التقليدي، وأصبحت الصور والفيديوهات متداولة في الميديا الإجتماعية قبل أن ينالها مقص الرقيب، لكن تبقى مسألة الإعتداء والانتهاكات جرماً لايغتفر في فضائنا العربي الذي لم يعد بوسعه تقبل الرأي والرأي والآخر، وتروقه فقط سوى المدائح والتبعية حتى في الرمق الأخير من المعالجة الصحفية .