إعلان انقرة بين الصومال وإثيوبيا: حسابات الربح والخسارة

مقدمة
شهدت العاصمة التركية توقيع “إعلان أنقرة” بين الصومال وإثيوبيا، خلال شهر ديسمبر ٢٠٢٤، في خطوة تاريخية وصفت بأنها نهاية التوترات بين الدولتين الجارتين، في حين يرى آخرون أنها بداية لأزمة جديدة، الإعلان، الذي جرى برعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحضور الرئيس حسن شيخ محمود ورئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، يأتي في أعقاب خلافات حادة، نتجت عن توقيع إثيوبيا مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال تضمنت استئجار ميناء بحري مقابل الاعتراف بسيادة الإقليم، مما أثار اعتراضات قوية من الحكومة الصومالية التي اعتبرت الاتفاقية انتهاكًا لسيادتها.
وأكد الاتفاق المسمى بإعلان أنقرة، على احترام مبادئ القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في إطار علاقاتهما الثنائية، واتفق البلدان على تجاوز القضايا الخلافية، وأشاد بالتضحيات التي قدمها الجيش الإثيوبي في الصومال تحت مظلة الاتحاد الإفريقي، وأكد أهمية استفادة الصومال من الوصول الآمن لإثيوبيا إلى البحر. ومن المقرر أن تبدأ مفاوضات فنية بين الجانبين للتوصل إلى اتفاقيات خلال شهرين كحد أقصى، على أن يتم توقيعها في غضون أربعة أشهر، مع تعهد تركيا بتوفير جميع التسهيلات اللازمة لإنجاح هذه المفاوضات.
إعلان أنقرة: بداية أزمة أم نهاية معضلة؟
وصف الرئيس التركي أردوغان “إعلان أنقرة” بالخطوة التاريخية، إذ تمثل ركيزة أساسية لبناء اتفاق يوقف التصعيد المتبادل بين البلدين، ويجنب المنطقة المضطربة مزيدًا من النزاعات، ويرى مراقبون أن التقييم الحقيقي للعملية السياسية الجارية سيكون بعد الانتهاء من المفاوضات الفنية والكشف عن الاتفاقية التي سيتوصل لها الجانبان، فيما ينظر آخرون إلى البيان الختامي بنظرة متضاربة، قد تثير تكهنات واسعة حول النتائج المحتملة للمفاوضات.
وبحسب وزير الخارجية الأسبق، أحمد عود في حديث له عن الإعلان، أن الرعاية التركية ساهمت في تخفيف حدة النزاع بين الجانبين، ووقف الأطماع الإثيوبية بتقويض سيادة البلاد، وأن البيان الختامي يفند ضمنيا مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال، وإن لم يذكر ذلك نصًا في البيان.
وبحسب مراقبين، فإن وصف الإعلان بمثابة نصر للصومال، جاء في وقت تشهد فيه منطقة القرن الإفريقي نضوجًا دبلوماسيًا، وأضاف أن قادة البلاد أظهروا خبرة في إدارة النزاع، ولفت السيد سهل إلى نجاح الدبلوماسية الصومالية في تحييد الأطماع الإثيوبية دون الدخول في مواجهة مباشرة، وعبر طاولة الحوار، بالتعاون مع حلفائها الدوليين.
وفي المقابل، يرى معارضو الإعلان على أنه تنازل عن السيادة، ويقدم للجانب الإثيوبي امتيازات كبيرة دون تقديم مقابل يعزز مصالح الصومال، وذكر عبدالسلام جوليد، نائب المدير السابق لجهاز المخابرات والأمن القومي، إن موقف الحكومة الصومالية كان دفع الجانب الإثيوبي للانسحاب من مذكرة التقاهم الموقعة مع ارض الصومال، وان البيان الختامي لإعلان انقرة، لم يتطرق لتلك المذكرة، بينما ذكر نصا حاجة اثيوبيا لوصول مستدام وآمن من وإلى البحر، ومن الواضح ان الإدارة الصومالية لبت مطالب الإثيوبيين. ولم يعالج الإعلان تعامل إثيوبيا مع إقليم أرض الصومال ككيان منفصل، وابتزازها الحكومة الفيدرالية بورقة التعامل مع الولايات الإقليمية لتحقيق مكاسب سياسية ما قد يجدد مستقبلًا التوتر بين البلدين.
ولم يستثن محللون ان تؤثر هذه الاتفاقية كذلك على علاقات الصومال مع دول أخرى في المنطقة، مثل إريتريا التي قد ترى أن الاتفاق يؤثر على مصالحها الاستراتيجية، حيث ظهرت أخبار تشير إلى قطع إريتريا علاقاتها بالصومال في حال منحت إثيوبيا منفذًا بحريًا، وهو ما نفته أسمرة.
الصومال وإثيوبيا : الدوافع والمكاسب
دخل الطرفان إلى المفاوضات غير المباشرة التي رعتها تركيا بشروط مسبقة، فلدى الصومال خط أحمر للحفاظ على السيادة الوطنية وإلغاء مذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وارض الصومال، بينما تركزت مطالب إثيوبيا بالوصول إلى ممر بحري، وأن تحافظ على تواجدها العسكري في البلاد، ويرى محللون أن إثيوبيا دخلت المفاوضات وليس لديها ما تخسره، فيما تساوم الإدارة الصومالية على جزء من أرضها مقابل توقف إثيوبيا عن استغلال الانقسامات الداخلية الصومالية.
وبحسب عبدالرحمن سهل، فإن المكسب الأكبر للصومال هو الحفاظ على سيادة البلاد ووحدتها، وإلغاء مذكرة التفاهم بين اديس أبابا وإقليم أرض الصومال كما يظهر في البيان الختامي، في حين فشلت إثيوبيا في مساعيها التي دأبت على تحقيقها خلال عام كامل، واهدرت بذلك موارد اقتصادية وجهودًا دبلوماسية.
وقال السيد سهل إن إثيوبيا فهمت أن الأقاليم الصومالية ليست لقمة سائغة، لتدخل معها اتفاقات للوصول البحري دون تفاهم مع الحكومة الفيدرالية، وأن أطماعها في إنشاء قاعدة بحرية على المياه الصومالية مقابل الاعتراف بأرض الصومال قد وصلت إلى نهايتها.
وفي المقابل، يَعتقد البروفسور عبدي إسماعيل سمتر، أنه يجب وضع الجرائم التي ارتكبتها إثيوبيا بحق الصومال عبر التاريخ في الاعتبار عند الخوض في هذه المسألة، إذ تعد جزء من السردية التي أوصلت البلدين إلى هذه المرحلة اليوم. وكانت لدى إثيوبيا أطماع بالحصول على أرض سيادية في الصومال، وهو ما يظهر جليًا من مذكرة التفاهم الموقعة مطلع العام الماضي، ولا زالت تسعى لتحقيق أهدافها، دون أن تحفز هذا الهاجس لدى المفاوض الصومالي، وبحسب، الأستاذ الأكاديمي سمتر فإن مصطلح المنفذ البحري “الآمن” الذي جاء في البيان قد يكون إشارة للقاعدة العسكرية، التي سعى الجانب الإثيوبي لبنائها في أرض الصومال على البحر الأحمر.
وأضاف أن هناك العديد من الدول الحبيسة في القارة التي تستعمل الموانئ المملوكة من جيرانها، مثل أوغندا وكينيا، ويمكن الاستفادة من الآليات المتبعة بين هذه الدول لضمان استفادة إثيوبيا تجاريًا من موانئ البلاد، ولكن الحاجة إلى تشكيل لجنة فنية بين البلدين يثير مخاوف الصوماليين بأن تقبل مقديشو ذات البنود التي رفضتها في مذكرة تفاهم إثيوبيا وإقليم أرض الصومال.
وإلى ذلك ذهب الكاتب الإريتري، منصور سليمان، متهمًا رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بلجوئه إلى أسلوب المماطلة وكسب الوقت في المفاوضات، وأبرز مثال على ذلك مفاوضات سد النهضة، حيث استغرقت مصر 14 عاماً دون تحقيق أي تقدم يُذكر.
حسابات الوسيط التركي
تمتلك تركيا علاقات استراتيجية مع الصومال وإثيوبيا على حد سواء ولها في البلدين مصالح متماثلة، ولا تفضل أن تدخل في نزاع مع إثيوبيا إذ أظهرت انها مستعدة للتصدي لكل ما من شأنه تهديد مصالحها في إثيوبيا، كما صرح السيد عبدالسلام جوليد، وقد أجرت الصومال اتفاقيات عدة مع الجانب التركي من بينها الاستفادة من الموارد البحرية، وحماية السواحل الصومالية، واتفاقيات أخرى تفردت بها تركيا مع الصومال تجعلها مستعدة لحماية المصالح الصومالية على ألا يكون المقابل التأثير على استثماراتها في البنية التحتية الإثيوبية، وبالنظر إلى هذه النقاط ترى تركيا أن من مصلحتها حلحلة الأزمة بين الدولتين بصورة سلمية وهو ما يبدو أنه تحقق حتى الآن.
وخلال ٢٠ عام الماضية تركيا لديها استراتيجية دبلوماسية أهلتها لأخذ دور إقليمي فعال، وهي الآن في مرحلة انتقال من التأثير الإقليمي للحضو بالتأثير العالمي، بقيادة رجب طيب أردوغان، بحسب المحلل عبدالرحمن سهل، وهي كذلك الدولة الثانية الأهم في حلف الناتو، وأدارت الكثير من المصالحات في المنطقة، عدى ذلك، يجمعها بالصومال علاقات تاريخية، إذ توجد بها أكبر سفارة تركية في العالم، ويجمعهما العديد من الشراكات الاستراتيجية، لذا تعد أكثر دولة قادرة للتوسط في النزاعات التي تكون الصومال أحد اطرافها.
وفي ضوء هذه المعطيات، يظهر أن الحسابات الاستراتيجية لتركيا تسعى للحفاظ على التوازن بين مصالحها في الصومال وإثيوبيا، فهي تدرك أن استمرار النزاع بين البلدين قد يضر بمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، وهي تسعى بهذه الخطوة لتعزيز موقعها كوسيط إقليمي موثوق، قادر على تسوية النزاعات وحماية مصالحها المتشابكة.
خاتمة
فيما يبدو أن “إعلان أنقرة” خطوة إيجابية في سبيل تعزيز الاستقرار الإقليمي، تبرز تساؤلات حول قدرته على الصمود أمام تعقيدات المشهد السياسي في القرن الإفريقي، فبينما حققت الوساطة التركية تهدئة أولية، ترتبط التوترات الكامنة بين الصومال وإثيوبيا بمصالح أوسع تشمل أطرافاً إقليمية ودولية أخرى، وتتمثل إحدى هذه المخاطر باحتمالية تأجيج التوتر بين البلدين إذا تعثرت المفاوضات الفنية، فغياب ضمانات التنفيذ قد يترك الاتفاق عرضة للتفسيرات المتضاربة، خاصة في ظل الغموض الذي يكتنف مستقبل مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال.
إضافة إلى ذلك، تعكس بعض بنود الإعلان، مثل “الوصول الآمن إلى البحر”، نقاطاً حساسة قد تُستخدم كورقة ضغط في المستقبل، ما من شأنه هذا أن يُثير مخاوف إضافية لدى الصومال بشأن سيادته، خاصة إذا استغلت إثيوبيا هذا البند لتحقيق مكاسب استراتيجية تتعدى مجرد الاستخدام التجاري للموانئ، وقد يجد الصومال نفسه أمام تحدٍ جديد يتمثل في ضرورة طمأنة دول مثل إريتريا، ومصر التي قد تنظر إلى التعاون بين مقديشو وأديس أبابا بعين الريبة، ما يستدعي جهدًا دبلوماسيًا أكبر من الصومال لضمان توازن علاقاته الإقليمية، وعدم المساس بمصالح الدول المجاورة.
ويبقى التحدي الأكبر هو ترجمة بنود الإعلان إلى نتائج ملموسة، فالقيادة الصومالية بحاجة إلى استراتيجية واضحة لضمان تنفيذ الاتفاق بما يخدم المصالح الوطنية، ويحفظ سيادة البلاد، ويطمئن الأطراف الداخلية والخارجية على حد سواء.