تقدير موقف

الصراع الأمريكي–الصيني في القرن الأفريقي وتأثيره على أمن ووحدة الصومال

مركز الصومال للدراسات

مركز الصومال للدراسات، مؤسسة بحثية مستقلة، تقوم على إعداد البحوث والدراسات والتقديرات وأوراق السياسات، وتنظيم الفعاليات العلمية والأكاديمية وتقديم الاستشارات حول التفاعلات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية في منطقة القرن الأفريقي

يُعدّ القرن الأفريقي منطقةً ذات أهمية جيوسياسية كبرى لاعتبارات استراتيجية واقتصادية. فمضيق باب المندب عند رأسه الغربي للبحر الأحمر يشكّل ممرًّا حيويًا للتجارة الدولية، حيث يمرُّ خلاله نحو 12% من تجارة النفط البحرية العالمية . وفي الوقت نفسه يُعدّ الصومال نقطة تماس بين الشّرق الأوسط وإفريقيا، وشريانًا للمحيط الهندي (من الشرق) والبحر الأحمر (من الغرب). وقد شهِد الصومال منذ سقوط نظام سياد بري عام 1991 انقسامات داخلية وحربًا أهلية على خلفية صراعات قبلية وإيديولوجية، لا سيما مع تصاعد دور “حركة الشباب” التي تسيطر على مساحات واسعة في الجنوب والوسط، وتنفذ العمليات الانتحارية والخطف والتفجيرات . تنوء الحكومة الفدرالية الصومالية اليوم بثقل عودة قوات الاتحاد الإفريقي (اوصوم) تدريجيًا وتولّي الجيش الوطني مسؤولية الأمن، في وقت تمثل فيه التحديات الأمنية المتعددة (قرصنة، إرهاب، نزاعات حدودية) تهديدًا لاستقرار الدولة والقرن بأسره .

الوجود الأمريكي في الصومال وأدواته

تعمل الولايات المتحدة منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي على مواجهة التهديدات في الصومال عبر أدوات عسكرية وأمنية متنوعة، ضمن إطار قيادتها للعمليات الإقليمية عبر القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم). يقع مقرُّ أفريكوم في جيبوتي المجاورة، حيث تستخدمه القوات الأمريكية كنقطة انطلاق لعمليات مكافحة الإرهاب بمشاركة دولية. وقد دعمت الولايات المتحدة الحكومة الصومالية عسكريًا عبر تدريبات وتجنيد تجهيز وحدة «دانب» الخاصة (بتمويل أولي من الخارجية الأمريكية ثم من البنتاغون)، لتكون قوة نخبة مهمة في معركة استئصال حركة الشباب . وقد قدّمت الولايات المتحدة عبر وزارة الدفاع والوكالة الأمريكية للتنمية مساعدات التدريب والمساعدات المادية والطبية للجيش الصومالي وخفر الحدود وقوات الشرطة، حيث تضمّنت هذه المساعدات تجهيز قوات «دنب» بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة (آليات خفيفة وراجمات صواريخ)، وتدريبها ميدانيًا لمساندة وحدات صومالية وأفريقية في تطهير معاقل الشباب . كما تشارك طائرات وأسطول البحرية الأمريكية دوليًا في ضرب معاقل «الشباب» واستخبارات ملاحية لحماية السفن التجارية. فمثلًا نفذت أفريكوم غارة جوية دقيقة في مايو 2023 بدعم استخباراتي من الصوماليين ضد تجمعات لـ«الشباب» في مدينة جلب، بإبلاغ مُسبَق من الحكومة الصومالية . وتؤكد الأوساط الأمريكية أن هذه الضربات الجوية الدفاعية حقّقت نتائج ملموسة في إنقاذ أرواح جنود صوماليين وإضعاف التنظيم، كما أكّدت التزامها بمنع أي تهديد أمريكي آخر من المنطقة .

على صعيد آخر، تُعنى الولايات المتحدة بحماية الممرات الملاحية الاستراتيجية. ففي أعقاب موجة القرصنة التي عصفت بالسواحل الصومالية في العقد الماضي، قادت الولايات المتحدة تحالفات بحرية متعددة الجنسيات (مثل قوة المهام المشتركة 151 وغيرها) لمرافقة السفن وصدّ التهديدات، بالتعاون مع حلفاء أوربيين وعرب. ومع تصاعد التوترات الأمنية في البحر الأحمر (خاصة هجمات الحوثيين اليمنيين المُستهدِفة للسفن في أعقاب الحرب في غزة)، تزداد أهمية الدور الأمريكي في أمن الملاحة العالمية. فقد أشارت تقديرات أمريكية إلى أن القلق من قيام الحوثيين بتعطيل الملاحة الدولية عبر مضيق باب المندب كان من بين الدوافع المعلَنة لدفع واشنطن لتعزيز وجودها العسكري في القرن الأفريقي وتأمين الشحن البحري . ويُذكر أن الولايات المتحدة تحتفظ بقاعدة عسكرية رئيسية (معسكر ليمونييه) في جيبوتي لتقديم الدعم اللوجستي والعملياتي للقوات المنتشرة في المنطقة، بما في ذلك الصومال، في مواجهة التهديدات الإرهابية في القرن الأفريقي.

في مطلع 2024، أبرمت واشنطن اتفاقية مع مقديشو تقضي ببناء ما يصل إلى خمسة قواعد عسكرية صومالية مخصَّصة لإيواء قوات النخبة الصومالية («دنب» ومدرعاتها وأفرادها)، بهدف تعزيز قدرات الجيش الصومالي ضدَّ «الشباب» . وهذه الاتفاقية المعلنة تستخدم في الغالب ضمن سلّم الحُجة الأمريكية إبقاء تأثيرها العسكري في الصومال، مقابل دول أخرى، لا سيما الصين وروسيا . وتسهل واشنطن ذلك عبر آليات مالية مثل برنامج «127e»، الذي يسمح لقيادة العمليات الخاصة الأمريكية باستخدام الوحدات الصومالية كقوات بالوكالة في مكافحة الإرهاب، متجاوزة بعض ضوابط الكونغرس التقليدية . ويُنظر إلى مثل هذه السياسات –إلى جانب الدعم السياسي والاقتصادي للقاعدة الفدرالية في مقديشو– بوصفها أدوات واشنطن في منافسة النفوذ الصيني (والروسي) المتنامي في القرن الأفريقي .

توسُّع النفوذ الصيني عبر مبادرة الأمن العالمية

على الجانب الصيني، صعّدت بكين في السنوات الأخيرة تعاونها الأمني والعسكري مع الصومال وإفريقيا عامةً عبر مبادرة الأمن العالمية (GSI) التي أعلنها الرئيس الصيني شي جين بينغ في 2022. وتسوق الصين هذا الإطار على أنه يركّز على الأمن التعاوني وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية ، لكنّه في جوهره يعكس تعميقًا للتواجد الصيني ومحاولات لعرض نموذج بديل للولايات المتحدة. ففي عام 2025 وحده، أكملت دفعات من كبار ضباط القوات الصومالية برامج تدريبية في الصين شملت مجالات إنفاذ القانون ومكافحة الإرهاب وحماية الحدود . وقد أشاد مسؤولون صينيون بعلاقاتهم مع مقديشو مؤكدين أن بكين «لن تغيب» عن دعم استقرار البلاد ، ومعلنين استمرار التعاون تحت مظلّة GSI لبناء «قوة دفاعية صومالية قادرة على الاعتماد على نفسها لمكافحة الشباب» . وشملت تلك البرامج محاضرات وتمارين عملية في الأمن الإلكتروني وإدارة الأزمات ومنع الجريمة العابرة للحدود، لإكساب القوات الصومالية مهارات جديدة . وأوضح نائب وزير الأمن الصيني بعد نهاية آخر برنامج تدريبي أن الصين ستعزّز «التعاون الأمني مع الصومال بموجب GSI وتقديم الدعم اللازم لبناء القدرات الاحترافية لقوات الصومال» .

إضافة إلى التدريب، بحثت البعثة الصينية في الصومال سبل التعاون البحري لمكافحة القرصنة مع قوات خفر السواحل الصومالية، نظرًا لأهميته لصيادي الأسماك الصينيين وحماية الممرات في خليج عدن . وعلى صعيدٍ أوسع، تحافظ البحرية الصينية على تمركز دائم منذ 2008 في مياه خليج عدن وسواحل الصومال، أرسلت خلاله أكثر من أربعين مهمة دورية بحريّة لحماية القوافل . وقد ساعد هذا الوجود الطويل في ترسيخ مفهوم «الحماية البحرية العابرة» لدى بكين وتسهيل تعاون عسكري دولي ضد القرصنة . وفي نفس الوقت، أصبحت الصين الآن ثاني أكبر مانح مالي لبعثات حفظ السلام الأممية وتستثمر في تدريب وتسليح قوات حفظ السلام الإفريقية، واختبرت قوات من جيشها خارجياً في مناطق متعددة . ويمكن القول إن بكين تعامل الصومال كجزء من ساحة تجريب لـ«مبادرة الأمن العالمية»، حيث قدمت نموذج تعاون أمني يوفر مساعدات تقنية وتدريب ودعمًا لوجستي بديلاً لعمليات التغيير (التدخّل) الغربية التقليدية .

نقاط التنافس والاحتكاك الأمريكية–الصينية في القرن الإفريقي

تتداخل المصالح الأمريكية والصينية في الصومال والقرن الإفريقي بشكل متزايد، مما يثير نقاط احتكاك متعددة.

 أولاً، الانتشار العسكري المباشر: بينما يعتزم البيت الأبيض إقامة قواعد لتدريب وإيواء قوات صومالية خاصة تحت إشرافه ، قدمت الصين نموذجاً مختلفاً بتأكيدها على «عدم التدخّل» السياسي لكن من خلال تدريبات وتزويد معدات (حتى وإن كان بشكل غير معلن غالباً). من شأن إقامة قواعد أمريكية دائمة أن تعزز حضور واشنطن في المنطقة، ما قد يدفع الصين للرد بإجراءات مضادة لتحسين مواقعها هناك (كما فعلت باستحداث قاعدة بحرية في جيبوتي).

ثانياً، الحسابات الإقليمية الكبرى: يرى المراقبون أن إثارة اليمنيين في حالها (الحوثيون)، وحماية طرق التجارة العالمية هي جزء من أزمة إقليمية أوسع. وإذا ما استمر الحوثيون بإطلاق صواريخ طائرات مسيّرة على السفن المارة نتيجة«العدوان الإسرائيلي غزة»، فإن ذلك يزيد الحاجة الأمنية لكلّ من الولايات المتحدة وحلفائها، وربما يدفع كل طرف لتعزيز حلفائه في الصومال. على سبيل المثال، ركّزت واشنطن على الربط بين أنشطة حركة الشباب وتعاونهم المزعوم مع الحوثيين، في حين تحاول بكين تهدئة مخاوف شركائها بتأكيد تمسكها بوحدة وسلامة أراضي الدول الإفريقية. وقد أعلنت بكين مرارًا دعمها لسيادة الصومال وسلامة أراضيه، خصوصًا في قضايا مثل اعتراف محتمل بصوماليلاند، الأمر الذي أعلنت الحكومة الصومالية وحلفاؤها رفضه بشدة .

ثالثاً، التحالفات والتأثير الدبلوماسي: تتبع واشنطن بانتظام سياسة «صومال واحد» تُحَجِّم أي احتكاك مع كيانات غير معترف بها (كصوماليلاند أو حلفها المحتمل مع تايوان)، بينما تدافع بكين عن تطبيق «سياسة الصين الواحدة» وتشجّع الحكومة الفدرالية الصومالية على حفظ وحدة البلاد. فعندما وقّعت حكومة إثيوبيا اتفاقًا مع صوماليلاند لتأجير ميناء مقابل اعتراف رسمي بإقليم أرض الصومال، دانت الولايات المتحدة ذلك سعيًا للحفاظ على الاستقرار، فيما رحبت الصين بموقف مقديشو الداعم لوحدة أراضيها .

رابعًا، المعايير والأيديولوجيا الأمنية: تطرح واشنطن عادةً شروطًا لإدارة التعاون (كالشفافية، واحترام حقوق الإنسان بما يتوافق مع الأمن الدستوري)، بينما تعلن بكين أنها تلتزم بمبدأ «عدم التدخّل» وتبرّر دعمها على أساس «احترام سيادة الدول» وتقديم مساعدات ميسّرة وغير مشروطة قروضًا واستثمارات. ورغم أن هذا النهج الصيني يلقى قبولًا لدى بعض القيادات الإفريقية، يحذر آخرون من أنه يفتح الباب لـ«شروط سياسية مخفية» قد تُشبه القروض الصينية السابقة (كما حدث في كيانات إفريقية أخرى).

باختصار، يغدو الصومال باعتراف محللين ساحة تنافس جيوسياسي متنامٍ، تحاول فيه واشنطن والحلفاء (بالإضافة إلى الصين وروسيا والدول الخليجية وتركيا) احتلال مواقع استراتيجية وتوسيع نفوذهم عبر تقديم وعود أمنية واقتصادية لكل طرف .

انعكاسات التنافس على الدولة الصومالية: الفرص والمخاطر

تنطوي المنافسة الأمريكية–الصينية على الدولة الصومالية على جوانب إيجابية يمكن استثمارها، وفي الوقت نفسه مخاطر بالغة على سيادتها واستقرارها.

  • الفرص: يسمح تعدد الشركاء الدوليين للصومال بزيادة خيارات التمويل والتسليح والتدريب. فالعلاقات المتوازنة مع واشنطن وبكين، والأطراف الإقليمية الأخرى (مثل تركيا والإمارات) تعطي مقديشو القدرة على الحصول على مساعدات أمنية واقتصادية متنوعة  . فعلى سبيل المثال، تلقّى الجيش الصومالي وحداته الخاصة تدريبات نفذتها كل من القوات الأمريكية والتركية والصينية، ما يعمل على رفع مستوى احترافيتها  . وكذلك قد تستفيد الحكومة الصومالية من تمويل مشروعات تنموية وبرامج مساعدات إنسانية من دولٍ متعددة، بدعم جهودها في إعادة الإعمار وتعزيز القدرات الوطنية. ويشير باحثون إلى أن تنويع الشركاء العالميين –خصوصًا بين الولايات المتحدة والصين وغيرهما– يمكن أن يعزز مرونة الإطار الاقتصادي والسياسي للصومال . علاوةً على ذلك، فإن المنافسة قد تدفع الدول الكبرى إلى تقديم عروض مغرية للصومال في سبيل كسب ولائه، مثل صفقات استثمارية أو إعفاءات من ديون أو مشاريع بنية تحتية، ما قد يخدم تطوره إذا أحسن إدارته.
  • المخاطر: في المقابل، قد يتسبب هذا التنافس في تقويض سيادة الصومال وتحويله إلى مسرح لصراعات بالوكالة. يُخشَى من أن تحوُّل البلاد إلى ساحة «حرب باردة جديدة» يؤدي إلى تقسيم جيشه إلى وحدات ترجع ولاؤها إلى الجهات الأجنبية الداعمة لها  ، بدلاً من الحكومة المركزية. فقد وثّق باحثون وشهود أن تدريب تمويلات متعددة للوحدات النخبوية (داناب، وغرغر، غاشان) أوجد خلافات إدارية واختلالات في هيكلة القيادة الأمنية الصومالية . وقد اعتُبر نشر هذه القوات وتبعيّتها الأجنبية إشارة إلى صومال «جمهورية الميليشيات»، مما يُضعف الوحدة الوطنية . كذلك، قد تجبر الأوضاع الأمنية والضغوط المالية للصومال على تقديم تنازلات مقابل دعم بعض الدول. فمثلاً، شكّل اعتراف جزئي محتمل باستقلال صوماليلاند أحد المطالب الترجيحية لبعض القوى الإقليمية (كما في صفقة إثيوبيا–صوماليلاند) ، وهو أمر أثار غضب حكومة مقديشو والخوف من استغلال «الشباب» لعواطف القومية الصومالية. كما أن الانخراط العميق في محاور دولية قد يجلب تبعات سلبية، من قبيل توريط البلاد في الأزمات الإقليمية القائمة – كحرب اليمن مثلاً – أو تحميلها ديونًا ضخمة مقابل مشاريع استثمارية صينية مستقبلًا. باختصار، يخشى الخبراء أن تحوّل الصومال إلى «ساحة تنافس جيوسياسي» قد يُضعف دولته ويعرّض أمنه الداخلي والخارجي للمخاطر  .

السيناريوهات المستقبلية والتأثيرات المحتملة

في ضوء هذا التنافس المتصاعد، يمكن رسم عدة سيناريوهات لمستقبل الصومال:

  • السيناريو المتصاعد (تصعيد تنافسي): يؤدي تصاعد التنافس الشديد بين الولايات المتحدة والصين إلى زيادة الضغوط على الصومال لاختيار جانب. فقد تُوسّع واشنطن وجودها العسكري (مثلاً عبر قواعد جديدة)، في مقابل تقديم بكين مساعدات أكبر (مالية وتقنية). في هذه الحالة قد يرى البعض أن الصومال يخسر حياده، وتتحوّل أراضيه – تدريجيًا أو فجأة – إلى قواعد لتنفّذ منها القوى الخارجية سياساتها في المنطقة. وقد يعني هذا مشروعات بنية تحتية ضخمة على المدى القصير، لكن مع قيود محتملة وسيادة مخففة على المدى الطويل، خاصةً إذا صعد التنازع إلى حد فرض شروط سياسية. بالإضافة، قد تتأثر مساحة المناورة الصومالية في أزمات إقليمية (كالحرب اليمنية، أو الصراع في إثيوبيا) بحسب التحالفات الكبرى. ويمكن أن يزداد تواطؤ حركات مسلحة (كالحوثيين) مع الجماعات في الصومال كما ذُكر في تقارير استخباراتية ، بما يعقّد المواجهة الأمنية ويهدد الملاحة.
  • السيناريو المحتكم (بقاء الوضع على حاله مع ضغوط متوازنة): قد يحاول الصومال في هذا السيناريو استغلال تنافس القوى الكبرى لتحقيق أكبر استفادة مع الحفاظ على نوع من التوازن. بمعنى أن تستمر الحكومة في تلقي مساعدات وتدريبات أمريكية وصينية (وأيضًا من تركيا وقطر مثلاً) مع فرض قيود داخلية على أي نفوذ أجنبي مفرط. وقد يحافظ الصومال على سياسة عدم الانحياز الظاهر (مع تجاوزات خفية)، ويبرم صفقات مع الطرفين بحذر، مصادقًا على شروط سياسية وطنية واضحة (مثل ضرورة احترام وحدة أراضيه وعدم التدخل في سياسته الداخلية). إذا نجح هذا التوازن، فقد تعزز الدولة قدراتها تدريجيًا دون أن تخسر الكثير من سيادتها. لكن ذلك يتطلب حكمة في إدارة العلاقات الخارجية وتنسيقًا محليًا قويًا للحيلولة دون استغلال الصراع الخارجي لتأجيج التوترات الداخلية.
  • السيناريو السلبي (تداعٍ أمني متزايد): في حالة أن يتدهور الوضع الأمني داخليًا (عائدات «الشباب» تزداد والسيطرة المركزية تتآكل) أو تتفاقم الأزمة اليمنية، فقد يتعرض الصومال لمأزق أمني خطير. فمثلاً، سُجل نقل أسلحة الحوثيين إلى ميليشيات «الشباب» ، مما قد يُفضي إلى اندلاع مواجهات بحرية أو هجمات إرهابية جديدة على الملاحة. وقد تستغل الصين تداعيات أي فراغ أمني لتوسيع تواجدها العسكري (كما فعلت في أفغانستان)، بينما قد تشدّد الولايات المتحدة عملها الاستخباراتي وضرباتها الجوية، وحينها قد تدفع الصومال ثمنًا باهظًا، بل وقد تُخسر مواقع استراتيجية مقابل الأمن، مما يقوّض السيادة الوطنية.

الخاتمة

من الواضح أن الصراع الاستراتيجي الأمريكي–الصيني له انعكاسات مزدوجة على الصومال: فهو يفتح أمامه فرصًا لتعزيز قدراته الأمنية والاقتصادية من خلال تنويع الشركاء ، ولكنه في الوقت ذاته يُعرّضه لمخاطر فقدان السيطرة المحلية وتوريطه في تنافس دولي يحتدم دون ضوابط . ومن أجل تعظيم المكاسب وتقليل الأضرار، يُستحسن أن يأخذ واضعو القرار في الصومال في الاعتبار النقاط التالية:

  • تنويع العلاقات بشروط وطنية واضحة: على الصومال متابعة علاقات التعاون مع واشنطن وبكين، وغيرها من الشركاء الإقليميين، مع الحفاظ على إطار وطني موحَّد يضمن عدم التفريط بسيادته. ويمكن أن يُترجم ذلك بإبراز أجندته التنموية (التعليم والصحة والبنية التحتية) كأساس لأي تعاون خارجي، فضلًا عن توثيق اتفاقيات الأمن وفقًا للقوانين الداخلية. وقد يساعد الولوج في شراكات متعددة على تعبئة المزيد من الموارد، شرط الحرص على الحدّ من أي شروط سياسية أو عسكرية قد تقوّض الاستقلال الوطني.
  • تقوية المؤسسات الوطنية: يجب التركيز على بناء جيش موحد وفي خدمة الدولة، وتفادي خلق فصائل مسلّحة ذات ولاءات خارجية خاصة. وهذا يعني تحسين التنسيق بين وحدات الجيش والشرطة المختلفة (داناب، وغيرها) عبر سلسلة قيادية مركزية ذات شرعية وطنية. كذلك فإن مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية (خاصة في الصفقات الأمنية والبنيوية) يساعد على ثقة الجمهور المحلي ويمنع الانقسامات المستغلة سياسياً .
  • الحوار الإقليمي والدولي: على الصومال تفعيل دوره في المؤسسات الإقليمية (الاتحاد الإفريقي/الإيغاد) لضمان دعم دولي موحّد لقضايا سيادته (مثل مشكلة صوماليلاند). وينبغي استخدام هذه القنوات للتنسيق مع الدول المجاورة حول القضايا الأمنية (كالحد من التهريب أو تنسيق مكافحة القرصنة)، بعيداً عن الصراعات الكبرى. ومن المهم تقديم مقترحات للتعاون الإقليمي مثل دوريات بحرية مشتركة لزيادة الأمن الإقليمي، ما يخفف اعتماد الصومال على قوة طرف واحد.
  • التعامل الدبلوماسي الحكيم: على القيادة الصومالية متابعة تحولات الموقف العالمي (مثل الحرب في اليمن والتوتر الأمريكي-الإيراني) واتخاذ مواقف متوازنة، لتجنب أن يدفع الصومال ثمن الصراعات الكبرى. مثلاً، يمكن دعم أي جهود دولية ضد تهديد الملاحة دون أن يربط الأمر بإشارات سياسية داخلية (كما فعلت مقديشو بمنع سفر حاملي جوازات تايوان عام 2025 للحفاظ على دعم الصين، رغم اعتراضها الواسع ). ومن الحكمة أيضاً التنسيق مع شركاء متعدّدين على مستوى ضبط الحدود وسياسات مكافحة الإرهاب بما يناسب الأولويات الوطنية، لا أن تُملي المساعدات الأجنبية سياساتها الداخلية.

و يعتمد مستقبل أمن وسيادة الصومال على قدرته في توجيه النفوذ الخارجي لخدمة قضاياه الداخلية، وعلى الحكم الرشيد الذي يمارسه صانعو القرار لاختيار شركاء يتفهمون خصوصيات الصومال ويلتزمون بعدم استغلاله لمنفعتهم الخاصة. فالتعددية في الشراكات قد تضمن موارد وفرصًا للتنمية، لكن فقط إذا أبقى الصومال مقود سياساته الأمنيّة والتنموية في يديه دون السماح بأن يتحول أراضيه إلى حلبة للصراع الدولي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى